مدارس القدس ( 2 )
في بيت المقدس ، لم يكن مستغربا أن يتخذ الواقف من وقفيته ، إن كانت مدرسة أو سواها مدفنا له .. بل لعل هذا كان دأب الكثيرين ، إذ هو يوقف في القدس تقربا إلى الله وخدمة لدينه الحنيف ، وأن يدفن في البقاع المقدسة الطاهرة ، فإنه يحوز موضئا في الأرض التي باركها الله .
لذلك فقد كثرت الترب في الوقفيات ، وكانت موجودة في معظم مدارس القدس التي نواصل الحديث عنها في هذه الحلقة ، بادئين بالحديث عن المدرسة الخاتونية، لنجد أنها قد ضمت أيضا في تربتها عددا من القادة المسلمين والمقدسيين على وجه الخصوص .
المدرسة الخاتونية :
تقع في باب الحديد غربي الحرم الشريف ، ويتفق المؤرخون على أن واقفتها هي أوغل خاتون .
وكان وقفها في الخامس من ربيع الثاني سنة سبعمئة وخمس وخمسين للهجرة .وفي سنة سبعمئة واثنين وثمانين للهجرة ، أكملت أصفهان شاه بنت الأمير قازان شاه عمارة هذه المدرسة ووقفت عليها .
بقيت الخاتونية مكانا للتدريس ، فدرس فيها القرآن الكريم حتى القرن العاشر الهجري .وأصبح متقطعا بعد ذلك ، إلى أن توقف مع بداية الاحتلال البريطاني في فلسطين ، إذ أصبحت دارا للسكن .دفن في المدرسة الخاتونية الزعيم الهندي المسلم محمد على سنة ألف وتسعمائة وواحد وثلاثين للميلاد ، كما دفن فيها الزعيم الفلسطيني ، موسى كاظم الحسيني سنة ألف وتسعمئة وثلاث وثلاثين ، ونجله شهيد القسطل عبد القادر الحسيني، ثم ابنه فيصل عبد القادر الحسيني .
وبباب الحديد أيضا أقام " بيدمر " نائب الشام سنة سبعمائة وإحدى وثمانين المدرسة الحنبلية .فيما أقامت المدرسة البارودية بباب الناظر ، الحاجة سفري خاتون ابن شرف الدين محمود المعروف بالبارودي ، وذلك سنة سبعمائة وثمان وستين للهجرة .
ومن مدارس القدس أيضا ، المدرسة الجهاركسية بجوار الزاوية اليونسية من جهة الشمال .وفي الجهة الشمالية من ساحة الحرم ، غرب المدرسة الأسعروية المتخذة اليوم مكانا لمحكمة الاستئناف الشرعية الإسلامية ، تقوم المدرسة الصبيبية، وقريبا منها المدرسة الباسطية . ثم المدرسة القادرية ، ما بين باب شرف الأنبياء ومئذنة باب الأسباط . وغرب المدرسة المنجكية تقوم المدرسة الحسينية وبداخل ساحة الأقصى عند الرواق الشمالي تقوم المجرسة الطالونية ، ويصعد إليها من السلم الموصل إلى منارة باب الأسباط أنشأها شهاب الدين الناصري الطولوني .
وبخط باب حطة لجهة الغرب تقوم المدرسة الكاملية .ومن المدارس التي تحولت دورا سكنية ، المدرسة العثمانية ، وتعرف اليوم بدار الفتياني ، وهي واقعة على يسار الخارج من الحرم من باب المتوضأ المعروف بباب الطهارة .والمدرسة الجوهرية ، وتعرف اليوم بدار الخطيب، وهي في طريق باب الحديد من الجهة الشمالية .
وقريبا من الجوهرية تقوم المدرسة المزهرية ، وواقفها هو الزينبي أبو بكر الأنصاري الشافعي سنة ثمانمائة وخمس وثمانين للهجرة . ولما كان الحديث عن مدارس القدس بعددها الكبير فضلا عن وصفها ولو باختصار ، مما لا تستطيعه هذه الوقفات فسنفضل القول في بعض من أشهرها وهي .
المدرسة الأفضلية :
من مدارس القدس ، عرفت قديما بالقبة ، وتقع في حارة المغاربة ، وقد وقفها على فقهاء المغاربة المالكية الملك الأفضل نور الدين، سنة خمسمائة وتسع وثمانين للهجرة .
لا تذكر المصادر التاريخية شيئا كثيرا عنها ، أما في الستينات من القرن العشرين ، فكانت دارا يسكنها بعض الفقراء المغاربة ، وزالت مع قيام جرافات الاحتلال الصهيوني ، بهدم حارة المغاربة عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين .
ويقول المؤرخ المقدسي عارف العارف : أن هناك مدرسة بهذا الاسم في حارة النصارى ، كانت في القرون الوسطى مسجدا له منارة ويرجع تاريخه إلى ثمانمئة وسبعين للهجرة ، وقد ذكر هذا المسجد ، مجبر الدين الحنبلي في الأنس الجليل .
المدرسة الأشرفية :
من أشهر مدارس مدينة القدس وأضخمها إن لم تكن أشهرها قاطبة . وقد عرفت أيضا بالمدرسة السلطانية .
تقع بجوار باب السلسلة ، وقد بناها في الأصل الأمير حسن الظاهري ، باسم الملك الظاهر خوشقدم سنة ثمانمئة وخمس وسبعين للهجرة ، ولكنه لم يتم بناءها ، إذ توفي الملك الظاهر ، فقدمها الأمير حسن إلى الملك الأشرف قاتيباي ، فنسبت إليه وسماها الأشرفية .
سنة ثمانمئة وثمانين للهجرة ، زار قاتيباي القدس ، ولم يعجبه بناء المدرسة، فأمر بهدمها ، وأرسل من مصر مهندسين وعمالا باشروا بإعادة بنائها في سنة ثمانمئة وخمس وثمانين للهجرة ، واستغرق العمل فيها سنتين.
فجاءت آية في الإتقان والجمال ، وفي وصفه لها قال مجير الدين الحنبلي :" إنها الجوهرة الثالثة " في منطقة الحرم بعد قبة الجامع الأقصى ، وقبة الصخرة الشريفة .ومن ميزات بنائها أن أكثر أحجارها من الرخام ذي الحجم الكبير ، وأنها مكونة من طبقيتي ومئذنة ومصلى ، وهي ذات مدخل مصنوع من الأحجار الملونة والمنقوشة .
تعرض هذا البناء العظيم للزلزال الذي أصاب مدينة القدس ، سنة تسعمائة واثنين للهجرة ، فتهدم أكثره ، ولم يبق منه إلا بعض الجدران والمدخل ، وعلى أحد الجدران الباقية نص منقوش يشير إلى منشىء المدرسة وتاريخ إنشائها .بقيت المدرسة وقفا ، أقيم في موضعه منزل مدرسة الأيتام الإسلامية في القدس .
المدرسة الرشيدية :
تأسست عام ألف وتسعمائة وستة في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى أحمد رشيد بك متصرف القدس .تطورت هذه المدرسة في الحرب العالمية الأولى فأصبحت مدرسة ثانوية كاملة من اثني عشر صفا ، ويعرف هذا النوع من المدارس بالمدارس السلطانية (المكتب السلطاني).
خلال عهد الانتداب البريطاني ، أخذت المدرسة الرشيدية تنمو وتتطور، حتى غدت من أحسن المدارس الحكومية في فلسطين . كانت المدرسة أولية، وفيها قسم ثانوي . ثم زاد التعليم فيها عن الثانوي بسنتين أخريين، فصارت تؤهل خريجيها الحاصلين على شهادة الثانوية العامة (المتريكوليشن ) ، لدراسة الطب والهندسة بدراسة مواد خاصة تحضيرية .
وكانت السنتان الدراسيتان في المدرسة تعادلان الإعدادية في كليتي الطب والهندسة .
بلغ عدد طلاب المدرسة الرشيدية عام ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين، ثلاثمئة وعشرة طلاب منهم ستة وعشرون طالبا يدرسون في الصفوف العليا التحضيرية للطب والهندسة .
فضلا عن كل ما ذكرناه عن مدارس القدس ، وصولا إلى نهايات العهد العثماني ، فقد أثمرت جهود البحاثة الأستاذ كامل العسلي ، في مراجعة سجلات ووثائق المحكمة الشرعية الإسلامية في القدس ، أثمرت كشفا عن عدد كبير جدا من المدارس التي أقيمت في بيت المقدس ، كما كشف عن التعديلات التي أجريت عليها ، والترميمات والإصلاحات التي عرضت لها .
مدارس القدس ، هي واحدة من مميزات المدينة العظيمة ، التي كان فضل العلم فيها ، مثل فضل العبادة في مسجدها ، فالدين الإسلامي الذي حث على أداء العبادات ، حث أيضا على العلم والتعلم ، وفي القدس ، كان المسلمون يجدون ما يبحثون عنه ، دور العبادة ، ودور العلم .