كان مولده صلى الله عليه وسلم في التاسع أو الثاني عشر شهر ربيع الأول (20 إبريل 571 م)، وقد أقيمت مكتبة في المكان الذي ولد فيه - عليه السلام - ويؤمها كثير من الحجاج لعيشوا في رياض المكان الذي شهد مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك الصفي يتيم الأبوين الذي مات أبواه فكفله جده، ومن بعد جده عمه.
فيما يتصل برضاعه وقد ذكروا أن أول من أرضعته من المراضع - بعد أمه صلى الله عليه وسلم - ثويبة مولاة أبي لهب، وكان ذلك بلبن ابن لها يقال له: مسروح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
وكانت السيدة حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية - أم رسول الله من الرضاعة - تذكر أنها خرجت في طلب مرضع مع زوج، وابن لها صغير ترضعه، مع جملة من نساء ينتسبن لبني سعد بن بكر، لطلب الرضعاء في سنة تذكر أنها كانت سنة جدب وقحط، على أتان لها ومعها ناقة كبيرة السن قد جف ضرعها من شدة القحط وقحط السنة، وكان صوت صبيها يتعالى من
بكائه من شدة الجوع وخواء ثديها مما يرويه، وجفاف ضرع ناقتها، وذلك المركب الذي امتطوه يتباطأ بهم عن السير، لما يجده من الجوع.
ذلك حال أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، تصفه بنفسها عندما جاءت لتطلب الرضعاء، وتذكر هذه السيدة أنه ما منهن امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، نظرا لما كن يؤملنه من نوال والد الصبي، فذلك عائد المطلوب لهن، فكن يقلن: يتيم، وما عسى أن تصنع أمه وجده ؟ فكرهن الرضى به لذلك، وحظيت نسوة بني سعد برضعاء، خلا السيدة حليمة، فكرهت السيدة حليمة الرجوع من بين صواحبها، فعادت إلى تلك الصبي اليتيم، بعد ما كانت قد أجمعت على الانطلاق، فقال لها زوجها: لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ! فذهبت إليه فأخذته، وما حملها على أخذه سوى عدم وجود غيره، فأخذته ورجعت به إلى رحلها، ووضعته في حجرها، فأقبل على ثديها، فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، ولعلك تذكر أن صوت أخيه كان يتعالى بالبكاء، فيطرد من أجفان والديه النوم.
وأعجب من ذلك أنها نهضت لناقتها تلك التي كان ضرعها جافا في مقدمها لطلب الرضعاء، فإذا بهذا الضرع يدر اللبن، فشربت وزوجها حتى انتهيا وقد صدرا عن الضرع ريا وشبعا وباتا بخير ليلة.
فأخبرها زوجها بأنها حظيت بنسمة مباركة إذ لم تكن السيدة حليمة يوما تطمع في أن تذكر هذا الذكر بين الناس، وأن تحظى بذلك التشريف فحسبها من شرف أنها أمه، وشئ آخر هو أن أرض بني سعد ما كان أجدب منها أرض في ذلك العام، فكانت أغنام بني سعد تروح جياعا، وأغنام هذه السيدة تروح شباعا.
وانتشر ذكر بني سعد بين الناس إلى اليوم، لتشرفهم بإرضاع النبي صلى الله عليه وسلم وحسبهم من شرف ما كان يقوله محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أنا أعربكم، أنا قرشي، واسترضعت من بني سعد بن بكر ".
وإخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة من بني سعد (عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث،
وحذافة أو جذامة بنت الحارث، الملقبة بالشيماء، تلك التي كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وحمزة بن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم أخو النبي من الرضاعة من وجهين، من جهة ثويبة، ومن جهة السعدية.
وقد بقي الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني سعد حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده، وقع حادث شق صدره، ففي مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه.
كفالته صلى الله عليه وسلم كان لعبد الله بن عبد المطلب مكانة خاصة في فؤاد عبد المطلب ظهر ذلك في معاملة عبد المطلب حفيده محمدا صلى الله عليه وسلم فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يفضله على أولاده.
قال ابن هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنا ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وقد مات جده عبد المطلب وعمره حينئذ ثماني سنوات وشهران وعشرة أيام، وقبل أن يموت عهد بكفالته إلى عمه أبي طالب وقد استسقى أبو طالب بوجه النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن
عساكر قال: " قدمت مكة، وهم في قحط، فقال قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فإستعد ! فخرج أبو طالب، ومعه غلام، كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قثماء، حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * * ثمال اليتامى عصمة للأرامل ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهم، وظل فوقه أربعين سنة يعز جانبه ويبسط عليه حمايته، ويناضل الخصوم من أجله.
وقد تبدى ذلك جليا عندما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، وارتحل به عمه أبو طالب تاجرا إلى الشام، فإذا ما وصل به إلى بصرى، وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أخل النصرانية، إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك فيما يزعمون عن شئ رآه وهو في صومعته.
يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.
ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه.
فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع.
ثم أرسل إليهم.
فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعبدكم وحركم.
فقال له رجل منهم والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم.
ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن
أحد منكم عن طعامي قالوا يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدثنا سنا، فتخلف في رحالنا.
قال لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال فقال رجل من قريش مع القوم، واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا.
ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده، وقد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا
فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له يا: غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا.
فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؟ فقال له سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله ونومه وهيئته وأموره.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبو طالب فقال ما هذا الغلام منك ؟ قال ابني قال بحيرى ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال فإنه ابن أخي.
قال فما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به قال صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود.
فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
في هذا الوقت اشتد حرص أبي طالب على محمد صلى الله عليه وسلم.
زواجه من خديجة كان عند زواجه منها في الخامسة وعشرين من عمره، لما اشتهر عندها من أمره وصدقه وأمانته، حيث كانت تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشئ يجعله لهم، وكانت قريش قوما تجارا، فلما بلغها عن رسول الله ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه
بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فقبل رسول الله وخرج في مالها، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام، ثم باع سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة، ومعه ميسرة، فلما قدم على خديجه بمالها باعت ما جاء به، فأضعف، وبلغها من ميسرة من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بما ترتب عليه أن بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا ابن عمي إني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك في قومك وأمانتك وصدق حديثك، ثم عرضت عليه الزواج منها، وكانت حينئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على الزواج منها لو يقدر عليه، فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره لأعمامه وخطبها وتزوجها وكان صداقها عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها.
وقد ولدت لرسول الله أولاده كلهم - إلا إبراهيم والقاسم - وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم والطاهر والطيب ورقية وزينب وأم كلثوم وفاطمة، أما القاسم والطيب والطاهر فهلكوا في الجاهلية،